الرأي , ساقية
(سائحة في باريس)
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
للتجوال فيها إحساس مختلف عن بقية الدول ، فإذا الأوقات تعزف دوزناتها مع قوس النصر ، ترقص مفاتح نوتاتها الشفافة عند إيفل ، تصطبغ السحب بكل ألوان الباستيل في أبواب اللوفر ، و تحلو الكتابة من وحي روح فولتير و فيكتور هيجو وكل أوفياء المحابر..
إلى عاصمة الحبّ و الفن جاءت .. تقفز مسرعةً ، متمايلةً بجذل خلّاب ، حين تمشي بمنعطفاتها و شوارعها الرحبة السعيدة .. تنظر لساعاتها حذرة من أن تمضي الدقائق بلا جديد و مفيد و سعيد..
ها هو أول يوم لها ، إذاً ستة أيام أخرى قبيل العودة للوطن – تقول لنفسها –
بمرور ثلاثة أيام لا زال صفاؤها الأبدي منتشياً بالسماء و الأرض البديعة ..
حتى بدأ جسمها ” ينهدّ من عالي مبانيه للساس ” * ، نواقيس خطر تطرقها بصمت !
ما هذا ؟!
تتساءل و تجيب : لعله عارض صحي زائل ، سأستعين ببعض الأغذية و النباتات العشبية ، لتعاودني الصحّة و يسافر البرد عن حنجرتي وصدري .
تقاومه بالتجاهل و المرح و النزهة ، و بدأت سلسلة توقفاتها لدى المطاعم تكثر ، لاحتساء أي مشروب ساخن ، لعل الجسم ينازع المرض الذي بدأ بالتغلغل ، و يأس المحاولات تنهار مذعنة..
ها هي الحواس تبدأ بالتوقف عن الاستمتاع بالأشياء ، لم يعد تفكيرها صالح للاستعمال ، أصيبت المشاعر بالصقيع ، تجمدت في العروق عقارب الساعات خارج الزمن كانت .. فمر قربها دون لمسة شفاء ، و أصبحت الخلايا في حالة انتظار مُعلق بالمشيئة ، كل شيء توقف إلا عينيها ، تطوفان في الأرجاء ، عانقتها الحمى دون فكاك ، فطال نومها عن العالم
” بذلتُ لها المطارفَ و الحشايا .. فعافتها و باتت في عظامي ” *
تحاول الإتكاء على معصم جسدها علّه يسعفها حين تمشي بالممرات خارج غرفتها ، هروباً من فضول الأعين ، و وحيدة آخر الليل .. لا تبحث عن شيء سوى تخفيف الألم الذي أحدثه استلقاؤها الممض ، تنتظر انبلاج النور ” ألا أيها الليل الطويل ، ألا انجلِ .. يصبح ، و ما الإصباح منك بأمثلِ ” * !!
تعجزها محاولات الجلوس لأجل رشفة ماء ، الإنصات للأحاديث ، وتصفح الجوال بات يؤذي عالمها الداخلي ، و يَضعف لسانها عن النطق بأكثر من أربعٍ و عشرين كلمة خلال يومها !
تأمل العافية ، و للجسد إملاءاته الخاصة .
تفكر .. هل سيسعفها الوقت لشراء ما تأجل ؟
و تلك الهدايا التي ترغب بها تذكاراً ، .. هل يمكن اقتناؤها ؟
تكرر الآيات و الأذكار ولا تدري متى ستشفيها ، لكنها تُريحها
حُرمت السياحة .. كانت لديها مخططات و جداول مليئة بالاستكشاف و المتعة .. فأين أصبح مكانها الآن ؟
لم تستطع تجاوز الحالة حتى رافقتها لأروقة المطار ، فانثنت إلى أرض الوطن ..
مؤمنة مُسَلِمة أننا في الحياة بمقدار .
المرض ..
من التجارب التي لا تُعدّ مكسباً ، ولو أغاضنا أحدهم ، فإن قلوبنا ترّق لحاله حين نعلم عن مكابدته
للمرض ..
” رسالة ” ، و إقامة جبرية للوقوف مع النفس
هو ..
إحساسنا بالمكبلين عن ساحات الحياة
هو ..
أُلفة مع ” الروح ” بُعيد التخلي عنها في أجندة الحياة ، معتقدين أن ما نفعله كان لأجل راحتها
هو ..
حقيقة من ” المشاعر ” المتصالحة ، وحين نشفى منه ، نعود باحثين عن السلام ، الحبيب ، المال، الإنجاز ، البهجة ، و الأمان ، لكن برضى مما سيُكتب لنا
لنحاور المرض ..
و لنفهم شكواه المتأخرة ، و لا نطفئ شمعة الطريق التي أراد إنَارتها ، لنتجه صوب عنوان أخضر هو ( الوقاية خير من العلاج ) فإن .. تجاهلنا المرض بعد العافية ، وتناسينا رسائله ، فقد تأتي وفوده الأخرى أشد ألماً، أمرّ طعماً ، و لياليه أقسى و أظلم وهناً .!
* ( لعل قصرٍ ما يجي له ظلالي .. ينهد من عالي مبانيه للساس ) الشاعر : محمد السديري
* ( و زائرتي كأن بها حياءُ .. فليست تزورُ إلا في الظلامِ ) قصيدة الحمى للشاعر المتنبي
* ( و ليل كموجِ البحرِ أرخى سدولَهُ .. عليّ ،بأنواعِ الهمومِ ليبتلي ) من معلقة الشاعر امرؤ القيس
شكراً استاذة هدى
ابدعتي في وصف
هذا الجمال والوصف الدقيق لجمال باريس كاني اتجول معك في شوارعها ..احببتها وانوي ان ازورها في
وكم لمستني مشاعر الذكريات والتنبه لمحطات الحياة وكيف ندرك مشاعرنا ونفهم رسالتها من المعاناة ..
اسأل خالق كل شي ان نتعلم رسائلنا بحب ولطف وسلام
رائعة استاذة هدى 💕