مرحبا بأميركا في السعودية
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
أمر العاهل السعودي باستقبال قوات عسكرية أميركية في السعودية هو أمرٌ تاريخي بالغ الأهمية، فالتقلبات السياسية والاختلالات الكبرى في موازين القوى في المنطقة على مدى أكثر من عقدين من الزمان كانت توجب مثل هذا القرار الحاسم والحازم.
التصعيد الإيراني العسكري في مياه الخليج العربي ومضيق هرمز وخليج عُمان بلغ حداً مثيراً؛ فبعد استهداف السفن التجارية بالألغام وإسقاط الطائرة المسيّرة الأميركية وصلت الأوضاع إلى اختطاف «الحرس الثوري» الإيراني لسفينتين بريطانيتين فيما يشبه الرد على إيقاف السفينة الإيرانية في جبل طارق وتعلن إيران كل يومٍ عن مزيدٍ من تخصيب اليورانيوم وتبتز الأوروبيين والعالم.
من نماذج هذه الاختلالات الكبرى في موازين القوى أن إيران أصبحت تعلن احتلالها لأربع عواصم عربية وهي تثير حرباً في اليمن وتنشر الفوضى في العراق وسوريا عبر ميليشيات منظمة ومسلحة من إيران يقف على رأسها «حزب الله» اللبناني الذي بدأت العقوبات الأميركية الصارمة على إيران بالتأثير عليه في قدرته على نشر الفوضى والإرهاب وفي معاشات عناصره وفي ميزانيته بشكل مباشر، فضلاً عن تصنيف الأرجنتين له كمنظمة إرهابية والتفكير الجاد لأكثر من دولة بتصنيفه منظمة إرهابية.
وأمن الخليج ليس أمناً خاصاً بدولة وحدها بل هو أمرٌ يهم العالم بأسره وبخاصة الدول الغربية الحليفة والتي يقف على رأسها الدولة الأقوى في التاريخ الولايات المتحدة، وهي اليوم تقف عسكرياً في مواجهة إيران في مياه الخليج وتعزز وجودها العسكري في المنطقة باستقبال قواتها في السعودية أهم بلدٍ عربي ومسلمٍ وأكبر اقتصاد عربي بلا منازعٍ، والحليف الاستراتيجي للسعودية منذ عقودٍ طويلة.
ومن الاختلالات الكبرى كذلك السياسات المعلنة لتركيا في أكثر من بلدٍ عربيٍ، سياسياً وعسكرياً واستراتيجياً، والتحدي الذي تفرضه بسعيها لتقليد النموذج الإيراني في التوسع وبسط النفوذ، فهي تنتهك سيادة العراق وسوريا كسياسة ثابتة لها، وهي توزع قواعدها العسكرية في قطر والصومال وغيرهما وتدعم كل الميليشيات الإخوانية والإرهابية في ليبيا، وهي الداعم الأكبر لأكبر جماعة إرهابية عرفها التاريخ وهي جماعة «الإخوان المسلمين»، وهي تهدد باختلالاتٍ أكبر بابتعادها عن أميركا واقترابها من روسيا، وروسيا دخلت في المنطقة ووضعت قواعد عسكرية ثابتة لها في سوريا ما يعني أن كثيراً من المعادلات السياسية والعسكرية في المنطقة تحتاج إلى إعادة توازنٍ لحماية مصالح الأطراف المتنازعة دولياً وإقليمياً.
السعودية تقود استقرار الدولة في المنطقة وتدعم السلم والأمن الدوليين، وتعتمد على قوتها وقوة تحالفاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية، ومن هنا جاء هذا القرار التاريخي، حيث صرّح مصدر مسؤول في وزارة الدفاع السعودية بأنه: «قد صدرت موافقة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود القائد الأعلى لكافة القوات على استقبال المملكة لقوات أميركية لرفع مستوى العمل المشترك في الدفاع عن أمن المنطقة واستقرارها وضمان السلم فيها».
وفي نفس اليوم أعلنت وزارة الدفاع الأميركية «البنتاغون» عن أن «شركة لوكهيد مارتن فازت بعقد قيمته 1.48 مليار دولار لبيع منظومة ثاد الدفاعية الصاروخية للسعودية» وهو تعديل لاتفاق سابق ما يجعل القيمة الإجمالية لصفقة ثاد تصل إلى 5.36 مليار دولار، وقد قالت وزارة الدفاع الأميركية، أمس السبت، «إن استقبال قواتنا في السعودية يوفر ردعاً إضافياً ويعزز قدرتنا على حماية مصالحنا» بحسب «العربية نت».
لا أحد يتحدث عن الحرب في الخليج ولكن الكل يستعد لها، إيران بكل بساطة لا تريد التراجع عن مشروعها التوسعي ونشر الفوضى والإرهاب والصواريخ الباليستية في المنطقة واعتماد أسلوب نشر الميليشيات ودعم جماعات الإرهاب لتحقيق ذلك الهدف، والعالم لا يستطيع التعايش مع نظام آتٍ من خارج التاريخ ليعيده إلى الوراء بقوة الفوضى والإرهاب، ودول المنطقة الغنية لن تفرط قيد أنملة في سيادتها وأمنها ومستقبلها الذي تبنيه وتراهن على النجاح فيه، ومع كل الحديث عن الحلول الدبلوماسية والسياسية فإن الاستعدادات العسكرية تتصدر وسائل الأنباء.
ستشهد المرحلة المقبلة تصعيداً متواصلاً في العديد من الملفات الساخنة والباردة، ومنها إعلان تحالف دعم الشرعية عن استهداف صنعاء في عملية نوعية لاستهداف أهداف عسكرية مشروعة ومنها تحرك لميليشيات إيران في العراق وربما بعض العمليات الإرهابية حول العالم يقوم بها «حزب الله» اللبناني أو تنظيم «القاعدة» أو «داعش» أو أي مسمى لجماعة إرهابية أخرى.
طبيعة السياسات المعلنة والاستراتيجيات المتبعة على الأرض توضح الفروق المهمة بين فرقاء السياسة في المنطقة، وكل ما تصنعه إيران اليوم هو لتجنب الاختناق بالعقوبات الصارمة غداً، وأن المواجهة في حال قوة النظام هناك خير من الانتظار للسقوط كورقة يابسة في المستقبل، وتأخير المواجهة لحين إضعاف الخصم استراتيجية ناجحة عبر التاريخ والجغرافيا.
فكرة إنشاء تحالف عسكري لحماية النقل البحري في الخليج فكرة رائدة ومهمة في سبيل إجبار إيران على تجرع سم العقوبات دون أي قدرة على تعطيل التجارة الدولية والممرات الدولية وتصدير نفط الخليج، وهو إن تم النجاح في بنائه سيكون رادعاً حقيقياً لإيران عن أي زعزعة للاستقرار في الخليج بل إنه سيكون بالغ الأهمية لتوسيعه وتعزيزه في حال أجبرت إيران العالم على الدخول في حربٍ عسكرية مباشرة.
في مثل هذه الأجواء المشحونة بالحرب والمتخمة برائحة البارود والقنابل يجري سراً العديد من السياسات المهمة لإدارة صراعٍ بهذه الأهمية وهذا الأثر، وعلى ضخامة المعلن المفيد للتوصيف والتحليل إلا أن طبيعة التاريخ تحكي عن أن المخفي أكثر أهمية في حسم النزاعات حين تتصعد إلى حروب عسكرية ساخنة، ويمكن قراءة تجارب متعددة حول العالم في لحظات ما قبل الحروب وكيف كانت تدار في الغرف المغلقة، وهو ما يبدو أن جميع الأطراف تعمل عليه في هذه المرحلة الصعبة.
هذه المعادلات الجديدة لرتق الاختلالات الكبرى سابقاً هي لتثبيت وإعادة بناء توازنات القوة في المنطقة والعالم، وهي لم تبدأ اليوم بل هي مستمرة منذ سنواتٍ، وبخاصة ما قامت وتقوم به السعودية على كافة المستويات داخلياً وإقليمياً ودولياً، ورهانها المستمر على دعم الاستقرار والسلام والانخراط مع العالم وبناء المستقبل يمنح مؤشراً مهماً على نتائج النزاعات والصراعات القائمة اليوم.
عبدالله بن بجاد العتيبي
نقلاً عن جريدة (الشرق الأوسط)