تمخضت “صفقة القرن” فولدت فأراً…
قضية فلسطين هي تاريخ طويل من الفرص الضائعة، لكن “ورشة المنامة” لم تكن بينها لأنها ببساطة ليست فرصة حقيقية على الإطلاق، ولم توضع لها أي من عناصر النجاح منذ البدء.
من الضروري البدء بتقرير هذه الحقيقة، قبل البدء بمناقشة ما حدث في هذه “الورشة” التي سبقتها حملة علاقات عامة ضخمة للترويج لها تحت عنوان كاسح ماسح هو “صفقة القرن”.
كان يمكن أن نلوم الفلسطينيين سلطة و”حماساً” لو أن “الورشة” جاملتهم بقليل من الحديث عن حقوقهم، واعترفت لهم ولو بجزء من مظلوميتهم التاريخية والمتواصلة، وأقرت بأن أرضهم محتلة، لقلنا إنهم للمرة العاشرة يفرطون بفرصة أخرى لاستعادة ما يمكن استعادته.
ولكن المنظمين لم يفعلوا ذلك أبداً، بل إن عرّاب الصفقة جاريد كوشينر الشاب الوسيم الأنيق صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب وزوج ابنته الجميلة إيفانكا، أعلن منذ البداية أن هذه “الورشة” لن تتحدث عن السياسة وإنما هي عن الاقتصاد، وأنها تهدف إلى جمع استثمارات تقدر بمبلغ 50 بليون دولار يتم إنفاقها على مدى عشر سنوات لإنشاء مشاريع بنية تحتية لصالح الفلسطينيين من أجل أن يكفّوا عن إزعاج أمن المستوطنين الإسرائيليين.
الصحافي الأميركي جاك مور وصف المشهد ومجريات “الورشة” في 32 تغريدة ساخرة نشرها على حسابه في “تويتر”، مشيراً في اندهاش إلى مزيج غريب من الحضور المدعوّين إلى الورشة بمن فيهم أثرياء ومطورين عقاريين وشاب صغير من مشاهير الـ “سوشيال ميديا” ومصرفي قال إنه لا يعرف لماذا هو مدعو من الأساس، وآخر كان يحاول ترويج أعماله في مجال الزراعة الرأسية. كما أنه لم يكن من المفهوم للصحافي سبب وجود رئيس الـ “فيفا” في المؤتمر، ويقول إنه طلب مقابلته ليسأله عن سبب وجوده وسبب حمايته للفرق الإسرائيلية في المستعمرات، بعكس ما تقول به قواعد المنظمة الأخلاقية، لكن مساعديه رفضوا إلا بشرط تجنب السياسة وأن يعطيهم نصوص الأسئلة مسبقاً.
ويضيف أن المشهد ازداد غرابة عندما “وعد” كوشنير في خطابه الافتتاحي أنه لن يتحدث في السياسة، ولكنه سرعان ما أصبح خطابه سياسياً حينما بدأ بلوم القيادة الفلسطينية على كل مآسي الشعب الفلسطيني، ثم يقول الصحافي أنه معروف أن في القيادة الفلسطينية الكثير من العيوب بما فيها الفساد، لكن الاقتصاديين يتفقون أن الاحتلال الإسرائيلي هو السبب الأول في مأساة الشعب الفلسطيني.
ويمضي الصحافي الأميركي في شهادته قائلاً إن “المؤتمر” اتسم بحضوره النوعي الضعيف ومخرجاته الأقل من ضعيفة وعدم خروجه بأي قرارات ولا التزامات من أي نوع، والغياب الكامل للفلسطينيين بمن فيهم رجال الأعمال باستثناء واحد معروف بتعاونه مع الاحتلال.
وبالجملة، فإن الصورة التي يخرج بها الصحافي الأميركي، ونخرج بها معه، إن “الورشة” كانت من نوع مؤتمرات العلاقات العامة التي تسعى إلى الترويج لاستثمارات عقارية أو مالية في مكان ما، لكنها لا تقنع أياً من المستثمرين بسبب انعدام الأمن في موقع الاستثمار، لأنه ببساطة واقع تحت احتلال. وهذه الكلمة، (الاحتلال) لم ترد في أي من وثائق المؤتمر ولا في كلمات المتحدثين الذين قدموا للحديث مدفوعي الأجر بمن فيهم رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير. إذاً، هي صفقة “تمخضت فولدت فأراً”.
عقلاء العرب وبعض عقلاء الفلسطينيين يعرفون تمام المعرفة، أن الفرص الضائعة منذ قرار التقسيم في عام 1948 لا يمكن استعادتها. وأن العالم العربي قرر منذ ذلك الحين أن القرار هو فلسطيني أولاً، وأن لا أحد يستطيع التفاوض نيابة عن الفلسطينيين، نقبل ما يقبلون ونرفض ما يرفضون، وحتى “صفقة” كامب ديفيد التي أبرمها الرئيس المصري الراحل أنور السادات وفقد حياته بسببها وحاول إشراك الفلسطينيين معه، عندما رفضوها رفضناها معهم لأنهم هم أصحاب الشأن.
وعندما يقول جاريد كوشنير أن كل ما يقوم به الفلسطينيون هو لوم إسرائيل والآخرين، فهو يقصر عن الحقيقة قليلاً، لأن بعض الفلسطينيين لا يلومون إسرائيل بقدر ما يلومون العرب الذين يقفون في صفهم ويدعمونهم بكل ما يعنيه هذا الدعم من تضحيات، والمشكلة أن اللوم والتظاهرات والتحريض يقع على الذين يقفون بكل صلابة ضد التطبيع وإقامة العلاقات مع دولة الاحتلال بدلاً من تلك التي تطبع وحتى تتبرع لبناء المستعمرات.
ولكوشنير، ولهؤلاء الفلسطينيين، سأطرح هذا الاقتراح بعيداً من المزايدات من هنا أو هناك:
ليعقد المؤتمر القادم في تل أبيب، ويتم تطوير العرض ليصبح كالتالي: أن تقبل إسرائيل بالمبادرة العربية للسلام كاملة، وأنا أضمن أن تتدفق استثمارات بما لا يقل عن 100 بليون دولار على دولة فلسطين المستقلة، وتضمن إسرائيل الأمن والسلام والعلاقات الطبيعية مع كل جيرانها.
سلطان البازعي
نقلاً عن (الحياة)