شعرة معاوية بين الرياض وواشنطن
يحظى أي حديث صحافي لقائد سعودي باهتمام خاص في الأوساط الإعلامية، ويتردد صداه في أرجاء العالم وفي أروقة صناعة القرار في العواصم العالمية، فكيف إذا كان القائد بحجم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وهو الذي عرف بدقة اختيار ما يقول ومتى يقوله، وكيف إذا كان هذا الحديث يأتي في وقت حرج تمر به المنطقة ونذر الحرب تحوم حولها مع تصاعد الاستفزازات الإيرانية للعالم بإشعال الحرائق في أهم منطقة تزود العالم بالطاقة، والتي وصلت إلى التلويح بتنفيذ تهديداتها بإغلاق مضيق هرمز بشكل عملي عبر تفجير ناقلات النفط.
السؤال الذي تردد كثيراً خلال الأسابيع القليلة الماضية كان مفاده: هل أن واشنطن جادة فعلاً في نيتها مهاجمة إيران، وهل أن الحشد العسكري هو للاستعداد لإيقاف النظام الإيراني عند حده، أم أنه للتهديد فقط ولزيادة الضغط الاقتصادي؟ كما تردد سؤال “تآمري” يقول: هل أن واشنطن هي التي تفتعل هذه الأحداث لإشعال حرب في المنطقة بما يعني زيادة مبيعات السلاح إلى دولها، أم أن السعودية هي التي تحرض واشنطن على دخول المواجهة مع طهران لتتخلص من نظام “الملالي” الذي منذ تولى السلطة في طهران، يبدي عداء للسعودية ولا يخفي مطامعه في إسقاطها والسيطرة على المنطقة العربية بالكامل.
ومن الواضح أن العلاقة السعودية – الأميركية، كانت دائماً مثاراً لتخرصات المحللين، فهي من جانب، مادة للهجوم على الرياض من قبل خصومها في المنطقة الذين يتهمونها دائماً بالعمالة لأميركا، وبأنها أداة لتنفيذ الأجندات الاستعمارية والإمبريالية ويعجزون عن إثبات ذلك. ومن الجانب الآخر فإن العلاقات تلك ذاتها تشكل مادة للصراع السياسي داخل واشنطن يستخدمها خصوم الإدارة، أي إدارة تكون في البيت الأبيض، ولا يهم إن كانوا من “الديموقراطيين” أم “الجمهوريين”. اعتدنا أن تكون السعودية ونفطها وسلاحها مادة للتراشق مع اقتراب كل حملة انتخابات رئاسية أميركية، إذ تمتلئ عناوين الصحف وخطب السياسيين بأحاديث عن ممارسات حقوق الإنسان وحقوق المرأة والتطرف… إلخ.
ومنذ اللقاء التاريخي الشهير بين الملك عبدالعزيز (رحمه الله) والرئيس الأميركي الراحل روزفلت في شهر شباط (فبراير) 1945 كان واضحاً أن المبادئ والقيم السياسية التي انتهجها الملك الراحل هي التي سيطرت على على اللقاء، فلم يتمكن روزفلت من انتزاع اعتراف أو موافقة من الملك الراحل حول حق اليهود في إقامة دولتهم في فلسطين، بل اكتفى الملك عبد العزيز بالقول: “أعطوا اليهود أرضاً في ألمانيا التي اضطهدتهم وقتلتهم.. لماذا تحملون العرب والمسلمين ذنب غيرهم؟”، كان هذا في وقت أنجز الملك عبدالعزيز للتو تأسيس أهم عمل وحدوي في تاريخ العرب وأقام دولته، وكان في أمس الحاجة لاعتراف الدول الكبرى بها وبسيادتها، كما كان في أمس الحاجة للمعونات الأميركية المتمثلة في اكتشاف النفط، وحفر آبار المياه في هذه البلاد الصحراوية المترامية الأطراف. لكن الملك، الذي حظي باحترام الرئيس الأميركي وصداقته، أسس لعلاقة متكافئة قوامها المصالح المشتركة.
وكما يقول مثلنا الشعبي: “الرمح على أول ركزة”، فإن هذه العلاقات استمرت قائمة على تحالف متين لم يتأثر باختلاف وجهات النظر في قضايا كثيرة سجلها تاريخ العلاقات بين البلدين، ففي عام 1955 رد الملك سعود (رحمه الله) على التحالف الذي دعا إليه الرئيس الأميركي آيزنهاور لمقاومة المد الشيوعي وضم أعداء واضحين للمملكة، بطرد القوات الأميركية التي كانت تحظى بتسهيلات فيها، ولم يعد إلى التعاون مع واشنطن إلا حين نشبت أزمة قناة السويس وعارض الأميركيون العدوان الثلاثي على مصر.
وحينما نشبت حرب أكتوبر 1973 لم يتردد الملك فيصل (رحمه الله) في إيقاف تصدير النفط إلى الولايات المتحدة الأميركية والدول التي ساندت إسرائيل وقال حينها مقولته الشهيرة: “إن الانحياز الأمريكي الكامل لإسرائيل ضد العرب يجعل من الصعب جدا بالنسبة إلينا أن نواصل تزويد الولايات المتحدة بالنفط أو حتى أن نبقي على صداقتنا معها”.
الملك فهد (رحمه الله) اتخذ قراراً استراتيجياً بتنويع مصادر التسلح ليس فقط ما يتعلق بالسلاح التقليدي إنما أيضاً السلاح الاستراتيجي وذلك بشراء صواريخ بعيدة المدى من الصين، على رغم أن العلاقات بين الرياض وبكين لم تقم حينها، وكان هذا القرار رداً على تردد واشنطن في بيع المملكة صواريخ “مافريك” التي تزود بها الطائرات المقاتلة من طراز “أف 15” وتمت الصفقة بالفعل، ما دعا واشنطن لطلب تفتيش موقع تلك الصواريخ في عام 1988، وغضب الملك فهد وأمر بطرد السفير الأميركي من الرياض.
مثل هذه الأزمات، كان يمكن أن تكون قاصمة في العلاقات بين أي دولتين، لكن العاصمتين حرصتا دوماً على إبقاء “شعرة معاوية” بينهما، في كل الأحوال. فمن جانب واشنطن كانت تعرف أنها تتعامل مع حليف قوي راسخ البنيان وصادق ويعمل بناء على قيمه الخاصة وتحترم هذا الجانب وتتعامل مع حقائقه. ومن جانب الرياض، فهي تعرف أن الولايات المتحدة هي القوة الأعظم بعد -وحتى قبل- انهيار الاتحاد السوفياتي وتتعامل مع هذه الحقائق من دون أوهام في ما يتعلق بالمصالح الأميركية في المنطقة والعالم.
ولهذا، فإن الأمير محمد بن سلمان أجاب على السؤال بما يؤكد ثبات الموقف السعودي تجاه هذه العلاقة وهذا التحالف حين قال: “أولويتنا هي مصالحنا الوطنية. أولويتنا هي المواطن في الرياض وجدة وجازان وتبوك والدمام وغيرها من مناطق المملكة، وليس ما يراه أو يطرحه آخرون عن المملكة. وعلى مر تاريخ المملكة تمكنا من التعايش مع حلفائنا الرئيسيين على رغم وجود اختلافات طبيعية موجودة بين الدول كافة”.
ستدخل واشنطن المواجهة مع إيران -إن دخلت- بناء على مصالحها أولاً، وإن لم تدخل، فإن السعوديين قادرون على رد أي اعتداء يمس مصالحهم من دون انتظار إذن من أحد.
تذكروا فقط أن أول من فوجئ بقيام “عاصفة الحزم” كان واشنطن قبل غيرها.
سلطان البازعي
نقلاً عن (الحياة)