عمر البشير.. واللعب مع الثعابين !
صباح يوم 30 يونيو من العام 1989م كان الملك فهد رحمه الله يزيح الستار عن اللوحة التذكارية بمناسبة افتتاح القاعدة الجوية في حفر الباطن، كانت القاعدة الأكبر والأضخم من نوعها في الشرق الأوسط، وكان الصحفيون والمذيعون متحلقين حول الملك لأخذ كلمة منه بعد الافتتاح المهيب، المذيع الراحل سليمان العيسى رحمه الله كان أول من سأل، وما إن انتهى الملك من إجابته حتى بادره مندوب صحيفة عكاظ بسؤال استوقف الملك قليلا، خلال تلك الثواني جاء رجل من خلف الصفوف وهمس في أذن وزير الإعلام حينها الشيخ علي الشاعر، تقدم الوزير وهمس بدوره في أذن الملك، وكأن أمرا ً طارئا قد حدث، استدار الملك باتجاه المخيم وغادر مسرعا يتبعه مرافقوه.
لم يعرف الصحفيون شيئا مما يجري فلم يكن يمتلك الصحفي في تلك الأيام إلا هاتف المكتب والفاكس وعلاقاته، فما بالنا بصحفيين يتواجدون في قاعدة عسكرية ذات إجراءات صارمة، إلا أنهم استطاعوا بعد فترة معرفة الخبر الذي استدعى الملك للمغادرة.
لقد كان انقلابا عسكريا في الدولة الجارة «السودان» الموجودة على الضفة الأخرى من البحر الأحمر، وكان لابد للملك من متابعة التطورات في بلد عربي شقيق ومهم للسعودية استقراره وأمنه، إنه قدر المملكة مع أشقائها.
كانت المفاجأة أن الانقلاب جاء على حكم مدني لطالما حلم به السودانيون، بعد قيام سوار الذهب بالانقلاب على حكم جعفر نميري ليسلم بعد ذلك السلطة للمدنيين، ولازالت أصداء تلك الشعارات لليوم « َّ السكر أو العسكر». «الجيش أو العيش». إلا أن تنظيم الإخوان الخائن رتب بقيادة حسن الترابي انقلابا على الحكم المدني المنتخب، ووضع له واجهة عسكرية كان قائدها عمر البشير، ثم ليختلف بعد ذلك البشير مع جزء من قيادة التنظيم التي يمثلها حسن الترابي لدرجة أنه قام بسجنه لسنوات طويلة.
تراوحت علاقة السودان بمحيطه العربي بتغيرات كثيرة كان أبرزها اصطفاف السودان مع صدام حسين العام 1990 بعد الانقلاب بعام واحد فقط، ثم انعطاف آخر باتجاه إيران وفتح مكاتب ومعاهد تدريس للمذهب الشيعي بل وصل الأمر لتمكين الإيرانيين من بناء قواعد عسكرية على البحر الأحمر والسماح بنقل الأسلحة لحزب الله وحماس.
العلاقة مع السعودية أيضا شهدت أطوارا مختلفة، فقد كان السودان أحد مؤسسي مجلس التعاون العربي الذي قاده العراق لمناهضة المملكة، ثم استضاف السودان أسامة بن لادن الذي أسقطت عنه الرياض الجنسية إثر تورطه في أعمال تخريبية.
العلاقة مع أمريكا لم تكن في أحسن أحوالها فقد اتهمت واشنطن أسامة بن لادن المقيم في السودان بتفجير البارجة الأمريكية «كول»، قامت واشنطن على إثره بهجوم عسكري على السودان.
قطر لم تكن بعيدة عن السودان فقد ساندت تنظيم الإخوان وتدخلت في الشؤون الداخلية، كما ذكت مع حليفها القذافي الحرب في دارفور، ليتورط بعدها البشير في جرائم حرب ويوضع تحت طائلة المطاردة الدولية.
علاقة البشير مع مصر كانت أقرب إلى حافة الهاوية واتهم المصريون حكومة عمر البشير بـأنها سهلت وهربت وأدخلت الإسلاميين المتطرفين لمصر خلال الاضطرابات التي شهدتها في أعقاب ما سمي بالربيع العربي.
الترابي زعيم إخوان السودان عراب البشير ومن دفع به للانقلاب على الحكم المدني اعترف بكل غرور في لقاء مع أحمد منصور مذيع الجزيرة والمنتمي للإخوان أنه من دبر محاولة اغتيال الرئيس المصري محمد حسني مبارك في أديس أبابا سعيا منه لمساعدة إخوان مصر للانقلاب على مبارك والاستيلاء على الحكم.
البشير أيضا كانت له قصة مع الغنى والفقر في بلاده، فما إن زادت اكتشافات البترول في الجنوب وبدأ السودان يعيش طفرة اقتصادية إذا به يفاجئ الجميع ويعلن عن استفتاء يسمح للجنوبيين بالاستقلال وهذا ما حصل، إذ اقتطع الجنوب كاملا ليتحول السودان لنصف دولة وبلا موارد.
اليوم وبعد ثلاثين عاما من اللعب مع الثعابين يبدو المشهد السوداني أكثر غموضا فالشعب لم يعد يثق في أحد من الرموز الحاكمة مدنية كانت أو عسكرية، وتجاربه المدنية والعسكرية كلها خاسرة فقد كان هو من طالب بالعسكر للانقلاب على الحكم المدني ثم ندم وهو من يطالب العسكر اليوم بالعودة للحكم المدني، فلا حكم العسكر ولا حكم الأحزاب أفاد السودان.
الرئيس السابق عمر البشير في تصرفاته السياسية وتحركاته في الإقليم وتقلبه السياسي أقرب ما يكون إلى الرئيس السابق علي عبدالله صالح مستخدما سياسة اللعب مع الثعابين والقفز من فوق الحبال، فهل سيخرج من المشهد أم سيعود إليه كما عاد علي صالح عبر حزبه وتياره ورجالاته وما سيلحق تلك العودة من مخاطر جسيمة على السودان وعليه شخصيا.
محمد الساعد
نقلاً عن (عكاظ)