حينما يكون المسؤول مريضا
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
أحد المسؤولين المهمين أصابته وعكة صحية تحدث فيها عن تجربته حينما كان مريضا ونوم لعدة أيام في أحد المستشفيات الكبيرة، تجربة تستحق أن تذكر، لأن فيها تقييما لشريحة من العاملين في القطاع الصحي من الداخل. يحكي تجربته في الإسعاف حينما حضر تلك الليلة ووجد تجاهلا وتقصيرا ممن لا يعرفه لكن الخدمة الصحية المقدمة له تغيرت حينما تم التعرف على شخصه، “حيث كان له منصب إداري رفيع”، ما يؤكد أن هناك قلة من العاملين تقدم الخدمة الصحية حسب أهمية المريض وهذا أول خلل اكتشفه، حيث تم تسهيل كل إجراءات الدخول وبسرعة “أكيد بعد التعرف عليه”. من غير المقبول أن يشعر بالإهمال النسبي حينما كان مواطنا عاديا لدرجة أنه شعر أن الموضوع أصبح تبادل مصالح أكثر منه تقديم خدمة صحية مجردة، جعل ومع الأسف بعض العاملين في القطاع صاحب وجهين أحدهما القوي الشديد مع العامة والآخر المبتسم الرحيم مع من له حاجة إليه “علاج مصالح”، وتجده يحاول التقرب من المسؤول لدرجة الإزعاج، ولم يبق إلا أن يحضر معاملته المتعثرة لينجزها “المريض المسؤول” له. باختصار الموضوع أصبح تبادل مصالح أكثر منه تقديم خدمة صحية متميزة.
ذكرني هذا الموضوع بمثالية الطاقم الطبي في أحد مستشفيات كندا حينما طلبوني في الإسعاف لمعاينة مريض اكتشفت أنه هو المتبرع ماديا لبناء المستشفى وهرولت إلى أستاذي استحثه للحضور والسلام عليه وتسهيل دخوله المستشفى وإعطائه غرفة خاصة مستحضرا ثقافتي العربية، وتعجبت كثيرا حينما أعطاني توجيهات شفهية طبية “صرفة” لعلاجه دون الحرص لربط علاقة معه. غريب أمر ذلك المجتمع نادرا أن يستغل أحد عمله في تغيير سلوكه.
يقول صديقي المسؤول بعد انتظاري الطويل في دهاليز الإسعاف وكثرة تجهم وجوه الطاقم الطبي «حينما كان مواطنا عاديا» إلى الابتسامات الصفراء وتسريع أوراق دخولي إلى غرفتي الخاصة بعد معرفتهم بأنني رجل مهم. أعتقد أن تقديم الخدمة الصحية بحسب منصب المريض مشكلة لا يعاني منها القطاع الصحي، بل كثير من القطاعات سببه باختصار عدم الإخلاص في العمل. وبعض المستشفيات جعلت من قسم البروتوكول VIP كمكتب تخليص معاملات، وكان شعارهم أخدمك صحيا تخدمني وظيفيا.
أما قصة صاحبنا في غرفته الخاصة في المستشفى ففيها من العبر الشيء الكثير. يقول لم تكن معاناته كثيرا من الطاقم الطبي، لأنه تم التعرف عليه أنه أحد المسؤولين الكبار وتم زيادة الحرص في الخدمات الطبية ولا سيما حينما زاره بعض المسؤولين الكبار، أصبح بالمصطلح العامي مريض VIP لكن المشكلة هي أن غرفته الخاصة تحولت إلى شبه بوفيه مفتوح وزيارة مفتوحة، وكان المفروض أن تكون إقامته في المستشفى فترة علاج ونقاهة له، ولكن ومع الأسف كثير من الزوار لم يحترم خصوصية مرضه، فالزوار ليل نهار لا يتوقفون، وبعض من زواره لا يعرف أدب الزيارة فيطلب منه إعادة كل تفاصيل سبب وعكته الصحية ومتى وكيف حدثت؟ “وأصابه الملل من كثرة تكرارها للزوار”، ويأتي بعدها اقتراحات وقصص علاجية لا ينقصها إلا المصداقية، ويكثر فيها المبالغة التي كثيرا ما يستخدمها “القاص” لإقناع المستقبل بفعالية العلاج. وأصبح الكل يطلب وده وقربه “حتى المستشفيات مصالح”.
وبعد عدة أيام يقول زاد وزنه وقل نومه وأصبحت غرفته كأنها غرفة استراحة وكانوا يتواعدون في أوقات معينة للقاء في غرفته “ولسان حاله يقول: كم تمنيت في تلك اللحظة أن أكون مواطنا عاديا يتم تقديم الخدمة الصحية المجردة وأخرج”. أصبحت غرفته ومع الأسف مصدر إزعاج في المستشفى، حيث كل الاستثناءات في وقت الزيارة والأكل لدرجة أن أحد الزملاء أحضر “مفاطيح” قبل يوم من خروجه احتفالا بسلامته.
بالفعل هذه تجربة تتكرر كثيرا في محتواها، وقد تختلف في تفاصيلها وأقول هنيئا لعامة الناس هم في نعمة لا يقدرونها، لأن الجاه والمنصب له ضريبة لا يعرفها إلا من تورط.
د.أحمد بن محمد العيسى
(الاقتصادية)