كائنٌ غريبٌ يظهرُ في بريدة..!
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
لعلّ الحرّ قد أذابه ذلك أنّي قد رأيته قد ساحَ.. فبعضٌ من جسده الأعلى يستوطنُ الرصيفَ فيما بعضه الآخر من الساقين والقدم قد أغطسهما في بركةِ الإسفلت ليغمرهما العرق المنقّع بشيءٍ من لزوجةِ قمامةِ الموسرين..!
انحنيتُ.. لمستُه بأطرافِ أصابعي لأوقظه.. انتفضَ استدار إليّ بكلّه.. إذ استبدل الاستلقاءَ على قفاه وأذِنَ لظهرِه شيئاً فشيئاً أن يستقيم فيما مكّن طرفاً مِن عجيزته على الرصيف فكان إلى هيئة القعودِ أقرب.. وحين رمقني ما كانَ منه إلا أنْ ضجّ بقهقهةٍ متعاليةٍ وقبل أن يبلغَ مُنتهاها أحالَ ضحكته إلى نوبةٍ من بكاءٍ مخنوقٍ لا يمكن وأنت تراقب مشهدَ اهتزاز كتفيه من أثر نشيجه إلا أن تفقد القدرةَ على حبس دموعك!
اكتفيتُ بهذا المشهدِ الممضِ وجعاً ورغبتُ حينئذ في الانصراف اكتفاءً بما تجرّعتُه من مرارة رؤيته.. فلما أن ولّيتُه ظهري ضربَ بعصا معه حافةَ الرصيف.. التفتُ إليه أثناءها فأومأ إلي بالعصا أن تعال.. عدتُ إليه.. وقبل أن أنبس بشيءٍ بادرني: هل تعرفُ أنّك أول واحدٍ استطاعَ أن يمسَّ جسمي بيده.. ذلك أنّ كلَّ الذين يمرّونَ من هاهنا لا يحفلون بشأني.. سكت فجأةً ثم مسد لحيته المبتلّة بشيءٍ من لعابه حدّق بي: لستُ آبه بعدم اكتراثهم بي/ ولي – هكذا قال – وأضاف: ذلك أنّي أحبّ أن أبدو نقياً بطهري من غير أن ألتَاثَ بمُماسّتهم!! ولئن ود أحدهم أن يتبين من أنا فإنّه لا يُكلف نفسَه عناء الانحناءِ وإنما يكتفي بمقدمة حذائه لتقوم نيابةً عنه في ركلي.. ولذا فأنا بالمرّة لا أعير أحداً أيّ اهتمام كائناً مَن يكن بمن فيهم الشرطة فأنا لا أخافهم ولِمَ أخافهم وأنا لم أقترف شيئاً.. أتظنني مثلك فأخافهم لا.. اُدعهم لي إن شئتَ فلا شيءَ أخسره.
شُكرا لك.. أنتَ أشعرتني بشيءٍ من قيمتي حين تواضعت فتحسست تالياً جسمي بيدك.. هل أنت متوضئ؟!
كان سيمضي مسترسلاً غير أني أوقفته متسائلاً: من أنتَ.. ولم أنت َهنا..؟
أجابني: أنا.. وراح في نوبةٍ من كركرةٍ وهو يُردّدُ أثناءها: أنا أنا وبقبضةٍ من يدهِ اليُمنى طفقَ يضرب منتصفَ صدرهِ.. أنا ويمدُّ ألف أنا بنغمٍ ممزوجٍ بحشرجة بكاءٍ.. أناااا: أنا من قد اختلفوا في مَن «أنا» على أقوالٍ ولعلّ أقربها للصواب هي هذه الأقوال:
* أنا بقايا نطفةٍ من ماء أبي مخلوطةٍ بشيءٍ من لعنة النفط كبرتُ ككل الذين يكبرون فجأةً حتى وجدتني بعدَ دويّ سقوطي شقيقاً لكل قطٍّ نسدُّ جوعتَنا سويّاً بما تجودُهُ علينا مكبّات النفايات! غير أنّ هذا الأخير (القط) تخافه الفئران بينما أنا أخافها مع أنّني مثلها أحبُّ الجبن وأمقت المصيدة.!
* وقائلٌ بأنني: ولدتُ وفي فمي ملعقة من «لا» كبرت كارهاً لكلّ شوكةٍ على أطراف أسنانها المدببة كلمة «نعم» فما كان من أقرب الناس إلي إلا أن وصفوني بـ «المجنون» صدّقهم أهل الحارة.. ثم الحي.. ثم المدينة.. ثم السلطات ثم لم ألبث أن صدّقتهم أنا.. فاعتزلني الناس فلم يكن بدّ من الرصيف أستوطنه لألوذ به من جنون الناس ابتغاء أن أبقى العاقل الوحيد فيهم.!
* وثالثٌ يقسم بأنّي: كنتُ العبقريَّ في هذا البلد غير أنّ حركةً في السرّ تمّت ما بين «مشافيح» من أهل ديرتي وبين «الجن» فعانني – أصابني الأولون بالعين – فيما الجن تولّوا بقية الأمر في مسألة التلبُّس بدعمٍ من الرّقاة.. فآل أمري إلى ما ترى.!
* ورابعٌ لا يفتأُ يؤكد أنّي كنتُ مخاضاً لمشكلةٍ نشأت فيما بين أبي وأمي وترشّحتُ لأن أكون ضحيّتَها فمنذُ أنّ عقلتُ فأنا لا أعرفُ لي مكاناً آوي إليه غير هذا الرصيف الذي كان وحدَه مَن يُلملمُ بعثرتي إلى أن تولّى أمري «ما فيا» الشوارع وبقيّةُ حكايتهم معي ليست نهايته بخافيةٍ تلك التي أحالتني «مسخاً» كما ترى.!
* خامسٌ يقول: بأنّي ابنٌ لخطيئةٍ ساءت سبيلا وما إن ألفيتُني دون أبٍ ولا أمٍّ مع انضاف إليها من «قسوة» استوعبت حياتي «البائسة» في دارٍ للإيواء فلم يكن بُدٌّ من الهربِ وثمة حالةٌ تتلبّسني من «الانتقام»صرفتُها أولاً إلى النيل من «نفسي» واستعجلتُ إذ ذاك الموت فزدتُ الجُرعة فكان الذي كان..!
تبيّن لي من قصِّهِ طرفاً من حكايتَه أنّه ممن قد اُبتلوا بـ «القراءة» فرجوتُه أن يخبرني عن هذا الشأن..
أرادني أن أنصرف فأشار بعصاه ما فهمتُ عنه أن أكفّ عن الأسئلة.. وحينَ هممتُ بتركه سمعتُه يتمتم:
قال أبو الرقعمق:
أستغفر الله من عقلٍ نطقتُ به
ما لي وللعقلِ ليس العقل مِن شاني
وقال شاعر إيرلندا «أوليفر جولد»:
لقد سئمتُ أن أكون على الدّوام عاقلاً.!!
خالد السيف
نقلا عن “الشرق”