تحقيق صحفي يكشف مواقف مبهرة في تاريخ الملك فهد
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
و مع نهاية العام 1374هـ (1955)، كان الأمير الشاب فهد بن عبدالعزيز أكمل عاماً في تولي شؤون أول وزارة للمعارف، لكن ذلك الوقت كان كافياً له ليحقق إنجازات كبيرة، إذ قفز بعدد الطلاب في مدارس المملكة من 41814 طالباً إلى 53434 طالباً، وبعدد المدرسين من 1714 إلى 2188 مدرساً.
الوزير الطموح بحسب ما كانت تصفه وسائل الإعلام في ذلك الوقت، استطاع خلال أعوام قليلة تولى فيها زمام وزارة المعارف، الانتقال بالتعليم في المملكة من مرحلته البدائية الخجولة، إلى مرحلته المؤسساتية المنظمة التي نهلت من أفضل التجارب التعليمية في ذلك الوقت.
وعلى رغم أن الوزير الشاب تولى حقيبة وزارة المعارف في وقت كانت لا تزال فيه المملكة العربية السعودية تضع نفسها على بداية طريق التنمية، إلا أنه استطاع تحقيق إنجازات كبيرة، إذ لم يتجاوز عدد المدارس حتى تاريخ إنشاء وزارة المعارف 43 مدرسة ابتدائية و4 مدارس ثانوية، ومدرسة تحضير البعثات، والمعهد العلمي السعودي، لكنه وصل بها خلال سنوات توليه الوزارة إلى 712 مدرسة ابتدائية، وعدد الطلاب إلى 104203 طلاب، وعدد المدرسين إلى 4940 مدرساً، وارتفع عدد المدارس المتوسطة إلى 36 مدرسة تضم 5437 طالباً و262 مدرساً، وتضاعف عدد طلبة المدارس الثانوية كما تضاعف عدد مدرسيها.
ورسم الأمير فهد سياسة بعيدة المدى، تهدف إلى نشر التعليم وتعميمه في جميع أنحاء المملكة بمختلف مراحله الابتدائية والمتوسطة والثانوية، والتمهيد لإنشاء جامعة أو أكثر، تكون نواة لتأمين التعليم العالي للطلبة السعوديين، والتوسع في البعثات الدراسية إلى الخارج على أساس حاجات البلاد إلى المؤهلين الأكاديميين لسد حاجة قطاع التعليم من جهة، وبقية قطاعات الدولة من جهة أخرى، وتحقيق الاكتفاء الذاتي تدريجياً من المدرسين السعوديين لمختلف المراحل التعليمية.
وكان أول ما فعلته وزارة المعارف الناشئة على يد الملك فهد، أنها قسمت رقعة المملكة المترامية الأطراف إلى 21 منطقة تعليمية، وقسمت التعليم إلى فروع: عام، وفني، وجامعي.
وخلال السنوات التي تولى فيها الملك فهد وزارة المعارف من عام 1373 إلى 1380هـ، كانت موازنة وزارة المعارف عام 1374هـ (1955) 45.671.592 ريالاً، ارتفعت عام 1377هـ (1960) إلى 87 مليون ريال، ثم إلى 13.7012.200 ريال عام 1380هـ (1960).
الصحف الصادرة في ذلك الوقت، ومنها صحيفة «البلاد»، وثّقت لمرحلة تاريخية مهمة في حياة الراحل عندما كان وزيراً للمعارف، وأجرت لقاءات معه تطرقت إلى سير العملية التعليمية والعقبات التي تعترضها، وجهود الوزارة في التطوير، كما كانت ساحة للحوار وتبادل الرؤى بين الكتّاب المهتمين بالشأن التربوي والأمير فهد بن عبدالعزيز.
تعليم البنات
بدا الأمير فهد حازماً في موقفه من مواضيع كانت تثير جدلاً في الأوساط السعودية، إذ قال رداً على سؤال لرئيس تحرير صحيفة «البلاد» فؤاد شاكر في 18 صفر 1378هـ (1958)، عن مدى رغبة وزارته في تعليم البنات: «أؤكد أن وزارة المعارف تؤيد تعليم البنات في حدود ما أباحه الدين الإسلامي».
وحرص وزير المعارف على قراءة ما ينشر في الصحف من آراء تهم عمل وزارته والتواصل مع الكتّاب، فأرسل إلى صحيفة «البلاد» في 19 صفر 1378هـ (1958) رداً على ما طرح في الصحيفة، ومنه سؤال لرئيس تحرير صحيفة «البلاد» فؤاد شاكر حول سبب إنشاء لجنة لمقابلة الطلاب المبتعثين، قال فيه: «إن الوزارة حريصة كل الحرص على تيسير سبل العلم أمام أبنائها، ولم تحرمهم التعليم العالي بل هيأته لهم في الداخل وضمنته لهم في الخارج»، مشدداً على أن سبب تكوين لجنة مقابلة الطلاب «هو رغبة كثير من الوزارات في إيفاد طلاب لدراسات تتفق واختصاص هذه الوزارات، ولهذا كان لا بد من تشكيل لجنة كهذه تشترك في دراسة ظروف الطلاب وتدرك مدى استعدادهم العلمي، وحتى يستطيع مندوبو الوزارات اختيار الطلاب الذين يتميزون باستعداد للعمل فيها، لأن اللجنة تستطيع أن تتعرف عن كثب على ميولهم الفنية وإدراكهم الثقافي»، لافتاً إلى أن نتيجة الطلاب في هذا الامتحان الشفهي «تضاف إلى تقديره العام في الامتحان الرسمي، وبالتالي فإن الذين رشحوا للابتعاث في القسم العلمي كانوا ممن تحصلوا على نسب عالية في الدرجات، كما أن الكليات العلمية هناك تتطلب نسبة معينة مرتفعة للالتحاق بها».
وتجلى اهتمام وزير المعارف بالعدل بين الطلاب، حين شدد على أن «عمل اللجنة كان منصباً على توزيع الطلاب الناجحين هذا العام توزيعاً عادلاً روعيت فيه المصلحة العامة وإلحاق جميعهم بالكليات في الداخل والخارج»، وقال مقولته الشهيرة: «لن يبقى طالب واحد إلا وسيرشح للدراسة الجامعية، سواء في داخل المملكة أم خارجها».
وحرص الملك فهد (حين كان وزيراً للمعارف)، على التخاطب مع المعلمين والطلاب من خلال بعض المقالات التي ينشرها في صحيفة «البلاد» بين فترة وأخرى، مستعرضاً فيها أفكار وزارته، وخططها المستقبلية، أو معلقاً عبرها على ملاحظات وانتقادات الكتاب، أو باثاً مشاعره حول جسامة المهمة المنوطة به كوزير للمعارف، إذ وصف الأمير فهد بن عبدالعزيز في الكلمة التي خص بها صحيفة «البلاد» في 26-6-1373هـ، مهمة وزير المعارف في كل دولة بـ«المهمة الشاقة»، شارحاً ذلك بقوله: «لأنه مسؤول عن حركة الفكر والعلم على السواء، فهو مسؤول عن الثقافة العامة، وعن الثقافة العليا، وعن العلم والتعليم، والتعليم ذو درجات تبدأ من الأولى ولا تنتهي عند الشهادة الجامعية أو إجازة الدكتوراه، بل إنه مسؤول عن التعليم الأهلي أيضاً وعن كل صنوفه بلا استثناء».
وأضاف: «إن الأمر يزيد مشقة في بلادنا لأننا لا نعرف كثيراً من ألوان التعليم إلا حديثاً، كالتعليم المهني والتعليم العالي والتخصص في العلوم، وتأتي المشقة عندنا أننا أخذنا نضع الأسس والقواعد ونبتكر النظم التربوية، وغيرها من النظم التي تلائم بلادنا التي تقوم على قاعدة الإسلام».
ولفت إلى أن ما يخفف العبء الملقى عليه هو أن الملك سعود يقوي عزيمته ليمشي بخطى سريعة في الطريق الذي شقه جلالته، ويفضي بأمته الحية الفتية إلى قمم العلم العليا وذروات المجد والكمال، مشدداً على أهمية العون الذي تلقاه من ولي العهد الأمير فيصل، ومن أفراد الأمة رجال القلم الذين استوعبوا كثيراً من العلوم والآداب، ودعوا بإخلاص إلى النهضة الصحيحة التي تتناول الروح والعقل وتسمو بهما.
وحرص على التأكيد أنه قليل بنفسه كثير بملكه وإخوانه، «ولهذا فإني عظيم الأمل في الله بأن يجعل على يدي الخير والبركة والعلم لهذه الأمة التي وصفها الله في محكم كتابه: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)»، لافتاً إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله أمور تقوم على العلم والمعرفة، وخير أنواع القربى إلى الله هو العلم وتمهيد سبيله لطالبيه وتيسير وسائله للناس.
وكان كل همّ الوزير الشاب وقتها تيسير العلم لقاصديه: «أرجو من الله أن يجعل العلم متاحاً للجميع وسهلاً للأمة وبيوته مفتوحة الأبواب أمام الطلاب من كل لون ولغة، وكما أن مكة متجه للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ستكون بإذن الله ثم بفضل مليكنا المفدى كعبة المسلمين في العلم».
إصلاح المناهج.. والجامعة
وكان الكتاب يواجهون الوزير الأمير، في مقالاتهم بملاحظاتهم وآرائهم وأفكارهم عن العلم والمعلمين، وكان الفهد يستجيب لهذه الآراء ويعلق عليها في الصحيفة نفسها، إما عبر ردود مباشرة معدة للنشر، أو عبر مقالات شاملة، تتحدث عن التعليم بتوسع، أو من خلال الحوارات الصحافية التي أجريت معه. وتطرق بعض الكتاب في مقالاتهم بصحيفة «البلاد» في ذلك الوقت إلى أهمية تحديث المناهج وإنشاء جامعة، ومنهم أحمد عبدالغفور عطار الذي دعا في مقالة بتاريخ 12-6-1373هـ، إلى «إنشاء جامعة»، مقترحاً «البدء بإضافة كليتين جديدتين هما كلية الآداب وكلية الزراعة والصناعة والاقتصاد، إلى الكليتين الموجودتين في ذلك الوقت وهما كلية الشريعة وكلية البوليس، حتى يحين الوقت لإنشاء كليات جديدة كالحقوق والطب».
كما طالب عطار بالعناية بدراسة مشروع المؤلفات المدرسية «لأننا حتى الآن لم نتجه إليها اتجاهاً مثمراً» على حد قوله.
وهو ما رد عليه وزير المعارف الأمير فهد بن عبدالعزيز، بأنه أعد العدة للعلم والمعارف في المملكة، إضافة إلى مواد بناء الثقافة، ودرس ما قدم إليه من آراء ومقترحات، وما نشر من هذه الآراء والمقترحات في الصحف، وعلى الأخص صحيفة «البلاد» السعودية، ووضع الأهم منها في برامج التنفيذ العاجل، مثل إصلاح مناهج الدراسة والمؤلفات الدراسية والبعثات وغيرها، أما ما كان من الآراء والمقترحات محتاجاً إلى زمن وإلى وسائل ومواد خاصة، فوضع له القواعد وأرجأه للوقت المناسب مثل إنشاء الجامعة.
وتطرق إلى أن كثيراً من الكتاب والصحافيين والشعراء رأوا إنشاء جامعة، وهو رأي صواب، فالتعليم الجامعي نجحت تجربته في بلادنا، وخير شاهد على نجاح هذه التجربة كلية الشريعة واللغة العربية التي أصبح المتخرج منها عالماً ممتازاً، فكلية الشريعة واللغة العربية هما كليتان في كلية واحدة، وتضارع مثيلاتها في الشرق العربي والعالم الإسلامي.
لكنه اعتبر أن إنشاء الجامعة في هذا العام أو العام الذي يليه (1373هـ) يعد سابقاً لأوانه، إذ إن الجامعة لا بد أن تشمل الكليات التالية: العلوم والطب والهندسة والتجارة والزراعة والحقوق والآداب، وإذا فتحت أبواب الجامعة الآن فكم طالباً تضم مثلاً كلية العلوم أو كلية الطب؟ ويجيب عن هذا السؤال بقوله: «أعتقد أن كل كلية لا تضم إلا بضعة طلاب»، لافتاً إلى أن هذا السبب دفعه إلى أن يوالي بعث البعوث إلى الجامعات المصرية وغيرها، حتى يتكون في المملكة رصيد ضخم ممن يستطيعون أن يتولوا التدريس من أبناء هذه البلاد في الجامعة حين تتأسس، ويكون لدى المملكة عدد كبير من الطلاب المنتهين من التعليم الثانوي.
وتمهيداً للجامعة السعودية، رأى الأمير فهد أن يزيد عدد المدارس الثانوية، وبالتالي فإذا كان لدى المملكة بضعة آلاف من الطلاب الثانويين الآن، فإن الأمل بأن يتضاعف هذا العدد أضعافاً مضاعفة خلال بضع سنين، وعندئذ تفتتح الجامعة والجميع مطمئنون إلى النجاح.
ولا يتوقف طموح الأمير فهد بن عبدالعزيز عند هذا الحد، بل يأمل بأن يصل الطلاب إلى ما يعد درجة الليسانس حتى يحصل على إجازة الدكتوراه والإيجريجاسيون، مشيراً إلى أنه وهب نفسه للعلم للمعارف والعلم والثقافة، وأصبح جنديها الذي لا يدخر وسعاً من أجل نهضة البلاد علمياً وثقافياً وأدبياً وفكرياً.
وكتب أحمد محمد جمال، مقالة عنونها بـ«هذه سبيلي»، طالب فيها وزير المعارف، بإنشاء رياض للأطفال «نكفي بها فلذات أكبادنا من الإهمال في الشوارع والأزقة معرضين للأقدار والغبار، أو بعثهم للكتاتيب التي تعلم على الطريقة البدائية، ولا تنفع في تربيتهم بشيء، بل يعودون بعد الظهر إلى حياة اللعب بالأقذار والأحجار» – على حد وصفه -، وأضاف: «ونكفي بها في الوقت نفسه أطفالنا المبعوثين إلى الخارج شر تلقي العلم في المدارس الأجنبية التبشيرية». وكتب مجهول رمز لنفسه بـ(ع. ع)، مقالة نشرت في صحيفة «البلاد» عام ١٣٧٣، عنونها بـ«إلى سمو وزير المعارف»، وافتتحها بعبارة: «أرجو أن تغفر لي جرأتي وتسرعي يا معالي الوزير»، ثم طالبه في ثنايا المقالة بأن «تحاول على قدر الإمكان أن تستغل الكفاءات الممتازة والمخلصة الموجودة في جميع أنحاء المملكة لمساعدتك في تحمل المسؤوليات الجسام الملقاة على عاتقك، ولا داعي أن أذكر أصحاب الكفاءات بأسمائهم لأنك ستجدهم بسهولة إذا بحثت عنهم». وطالب الكاتب في مقالته الأمير الوزير بأن يعمل بجد ونشاط للنهوض بمستوى التعليم، وأن يواجه العقبات بقوة وصراحة وواقعية.