ما لا نعلمه عن ميزانية التحديات

لدى إعداد ميزانية المملكة خلال الأشهر الماضية، واجهت وزارة المالية تحديات دولية وإقليمية بالغة الصعوبة، تفوق آثارها السلبية كافة التوقعات المحدقة باقتصادنا الوطني والمحيطة بأسواقنا المحلية. ولكون المملكة تعتبر جزءاً لا يتجزأ من منظومة الاقتصاد العالمي، فنحن لسنا بمنأى عن تداعيات الأحداث الدولية بحُلوها ومُرّها، بل قد نتأثر بها بشكل أكبر من غيرنا لاعتماد مواردنا المالية وميزانيتنا السنوية على عائداتنا من النفط بنسبة 83%. إلا أن هذه التحديات لم تقف فقط عند حدود تقلبات أوضاع السوق العالمية، طبقاً لأحكام العرض والطلب، بل تجاوزتها في الحقبة الأخيرة إلى العديد من المؤثرات السلبية، التي قد لا نعلمها، ومن أهمها انتعاش أسواق بدائل النفط بوتيرة تصاعدية، والمضاربة على أسعار الطاقة بطرق استغلالية، والتلاعب بأسعار صرف العملات بأساليب احتيالية.

في إنتاج بدائل النفط تتفوق أميركا -المستهلك الأكبر في العالم- على كافة الدول في إنتاج النفط الصخري، لتشهد طفرة كبيرة بلغت أربعة ملايين برميل يوميا، ما أدى إلى انخفاض الواردات الأميركية من “أوبك” بنسبة 50% لأول مرة منذ 30 عاما. كما تزعمت أميركا منذ 2007 خطط إنتاج الوقود الحيوي، من خلال إنشاء 33 مصنعا للتكرير، واستغلال 20% من محاصيلها الزراعية في إنتاج 25 مليار جالون من “الميثانول” سنويا.

الدول المستهلكة للطاقة استغلت الخطوة الأميركية، وهرعت لتسخير مواردها المالية وعقولها البشرية وتقنياتها المتقدمة لإنتاج الذهب الأخضر. فلجأت الدول الأوروبية إلى منح حوافز ضريبية لتشجيع استخدام الوقود الحيوي، فارتفع إجمالي إنتاج مصانعها من هذا الوقود في العام الجاري إلى 3.2 ملايين طن بزيادة قدرها 65% عن العام الماضي، مما جعل أوروبا أكبر منتج للديزل في العالم. كما لجأت البرازيل إلى استغلال مزارع قصب السكر الهائلة لديها لإنتاج الوقود الحيوي، فقامت ببناء 28 مصنعا للتكرير، لتصبح البرازيل المنتج الأكبر لمادة “الإيثانول” في العالم بحدود 16 مليار جالون سنويا، يذهب 13 مليارا منها للاستهلاك المحلي ويتم تصدير الباقي إلى الخارج، لكي تتبوأ البرازيل في هذه المنتجات مركزا مرموقا يماثل المركز الذي تشغله السعودية حاليا في سوق النفط. وتأتي المضاربة على أسعار النفط في المرتبة الثانية من حيث التحديات، حيث تشن الأجهزة الرقابية في العالم غارات متزامنة على مكاتب شركات النفط الكبرى للتأكد من أسعار الطاقة القياسية. ففي العام الجاري أطلقت المفوضية الأوروبية أكبر تحقيق في عدة دول للتأكد من تحديد الأسعار القياسية للنفط، التي تبلغ قيمتها ثلاثة تريليونات دولار يوميا، ضمن أكثر من 400 سعر أساسي من أسعار الطاقة بالجملة. وفي الاجتماع الأخير لمجموعة العشرين، حذر وزراء مالية المجموعة كافة الأجهزة الرقابية من أن النظام المالي الحالي يساعد على التلاعب في أسعار سوق السلع العالمي، والذي يؤدي إلى سوء التصرف في أسواق النفط.

ولأن حدة المضاربة على مستقبل أسعار السلع وتحولها إلى مراهنات ربحية على الورق من خلال المضاربة الآنية، تساهم في تقلب أسعار العملات بين ثانية وأخرى، فلقد لجأ السماسرة إلى استباحة هذا النظام ومتابعة هذه التقلبات بشكل دائم وفوري لزيادة أرباحهم المادية الفاحشة. كما أن المضاربة على عقود السعر المستقبلي المتوقع للعملات، التي تخضع لتوقعات المضاربين المبنية على ما يتوفر لديهم من بيانات ومعلومات، أدت بدورها إلى تقويض حركة العملات الحالية والمستقبلية واقتصاديات الدول، وأحدثت خللا جسيما في خططها الاستراتيجية، التي تحدد وقت دخول السوق المالية ووقت الخروج منها.
ونظرا لأن تحديد نسبة الربح والخسارة، قبل الشروع في المضاربة أو من خلال المضاربة التبادلية التي تمارسها شركات التصدير والاستيراد، أصبح في عهدة المراهنة على ثبات قيمة العملة، مما جعل الربح الصافي لهذه الشركات يتأتى بسبب تغيير أسعار الصرف لعمليات التصدير والاستيراد معا. ولقد ساهم ضلوع الشركات الكبرى في هذه العمليات من مضاربات نظامية بحتة إلى مراهنات ورقية وهمية ذات قيمة مستقبلية متضخمة تعتمد على الربط بين أسعار صرف العملات مقابل أسعار النفط أو الذهب أو أسعار السلع الغذائية الأساسية.

ويأتي التلاعب بأسعار صرف العملات في المرتبة الثالثة من التحديات عالميا، حيث أعلن مكتب مكافحة جرائم الاحتيال الخطيرة في بريطانيا يوم الإثنين الماضي عن بدء التحقيق الجنائي في قضية التلاعب بسوق أسعار الصرف، التي يبلغ حجم التعاملات فيها نحو خمسة تريليونات دولار يوميا. وتستحوذ لندن على النسبة الأكبر من عوائد عمليات صرف العملات بنسبة 41% من إجمالي المعاملات اليومية، لتتبعها أميركا بنسبة 19%، ثم سنغافورة واليابان وهونغ كونغ بنسب لا تتجاوز 6% لكل منهم.

هذه الممارسات الضارة أصابت الدول المستهلكة للنفط بقلق شديد إزاء معدلات النمو الاقتصادي فيها، حيث شهدت صادراتها خلال الربع الأخير من العام الجاري انخفاضاً بنسبة 6% في ألمانيا و5% في فرنسا و7% في إيطاليا و12% في الصين و8% في اليابان وكوريا الجنوبية والهند. كما قام صندوق النقد الدولي بخفض توقعاته للنمو خلال العام القادم داخل أوروبا بنسبة 1.3% وداخل الدول الآسيوية بنسبة 2%، الأمر الذي ألقى بظلاله على مناخ الاستثمار في الدول المستهلكة للطاقة وأدى إلى تراجع نسبي في معدلات الطلب على النفط.

ما نعلمه وما لا نعلمه عن ميزانية التحديات، لن يثني المملكة عن مواصلة مهمتها التنموية والوفاء بتعهداتها الإقليمية والتزاماتها العالمية.

فواز العلمي

نقلا عن “الوطن”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *