الرأي
طبيبي الجميل
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
ذا الاسم سجلت رقم هاتف عيادة الطبيب المعالج لي، لشدة إنسانيته وكم الطاقة الإيجابية التي أخرج بها من عيادته بعد كل موعد، طبيبي من جيل الأطباء الراقين الذين يُجلون العلم ويحترمون المريض ويكاد لايجد وقتا ليتناول وجبة غدائه لكثرة انشغاله بالمرضى وتوثيق حالة كل مريض إضافة إلى الاجتماعات والمؤتمرات الطبية، لدرجة أنني كثيرا ما أظن أنه لا يمتلك عائلة أو حياة اجتماعية ، طبيبي الجميل ليس وحده بل إن نسبة 90% ممن تعاملت معهم من الأطباء هم مثل طبيبي الجميل، أما النسبة المتبقية ممن يعانون من ضعف في مهارات التواصل مع المرضى فقد كانت علاقات المرضى تدلهم على الطريق الصحيح، وجميعهم يشتركون في أنهم لا وقت لديهم ليحكوا رؤسهم، هؤلاء الرائعون مؤثرون في حياة مرضاهم ويظهرون كالأبطال في محيطهم ليضيئوا مجتمعهم ويبثوا في أفراده التفاؤل وحب الحياة، أما بقية الممارسين الصحيين -على اختلافهم- والذين لا يكاد المرضى يحفظوا وجوههم السمحة فكيف بأسمائهم، فلهم كل الحب والتقدير.
ولكن لماذا طبيبي الجميل يعرفه مجتمعه الطبي ومرضاه ولا تعرفه الجماهير كافة؟
لقد بدأ المجتمع يتعرف يوما بعد يوم على أسماء بعض الأطباء عندما ظهر ما يسمى بالتوعية الصحية للوقاية من الأمراض وأصبحت فقرة “صحتك” ركنا أساسيا في برامج الأسرة، و في هذا السياق يتبادر إلى الأذهان الراقي الرائع الدكتور زهير السباعي الذي كان له الفضل بعد الله في رفع مستوى الوعي الصحي الوقائي بين أفراد المجتمع في برنامجه (الصحة والحياة) على مدى 15 عاما، حيث كان يقدمه بلغة علمية رصينة ومعلومات ثرية أعدها فريق إعداد مختص.
مع الثورة الإعلامية وانتشار الفضائيات، تعرف المجتمع على أطباء من جميع أنحاء العالم العربي، ومع طفرة عمليات التجميل واقترانها بالشهرة والثراء للأطباء المختصين فيها بدأ المجتمع – نسائي في الغالب – يتداول أسماءهم وأصبحت بعض الأسماء تنافس مشاهير الفن والرياضة، حتى أن نظرة البعض لهم كانت تختلف عن أطباء التخصصات الأخرى سواء بشكل إيجابي أو سلبي، ومع تطور عالم الجمال والموضة ظهرت أسماء جديدة في عالم الطب لتنضم لأطباء التجميل وهم أطباء جراحة السمنة، ليكتسحوا مجتمعات الرجال والنساء والكبار والصغار، وبرزت أسماء أطباء اقترنت بالثراء والشهرة وكثرة إجراء عمليات السمنة نظرا لارتفاع تكاليف تلك العمليات، وصاحب هذين التحولين لجوء بعض الأطباء لتغيير تخصصاتهم إلى جراحة السمنة والتجميل بهدف الانضمام إلى ركب الأثرياء والمشهورين من بني مهنتهم.
جاءت وسائل التواصل الاجتماعي لتبلغ ظاهرة الأطباء المشهورين ذروتها، إذ لم يبخل عام 2020م ليكون ذروة الانفجار الطبي على هذا الصعيد بتفشي ظاهرة الطبيب الذي ينشر التوعية، والطبيب “المفتي” في كل الأمراض التي هي من صلب تخصصه أو تخصص غيره، والطبيب “المؤثر” على من عرف ومن لم يعرف، ومعجبوه مثل جمهور فنان الشباب “تامر حسني”.
تُعد هذه الظاهرة التي أدت لاختراع تخصص طبي جديد هو “طبيب مؤثر” -على غرار مؤثري وسائل التواصل الاجتماعي- كارثة في مجتمع مهنة الطب، حيث بدؤوا فرادى من موقع اليوتيوب ومروا بالانستاقرام ليحطوا الرحال بين السناب تشات وتويتر كأي مشهور آخر، ولينتشروا كالنار في الهشيم، تحت غطاء التوعية تارة، وبحجة المشاركة الوجدانية باستعراض صعوبة عملهم تارة أخرى، وبتجاوز خصوصيات مرضاهم بتصوير حالاتهم -أسوة بالطبيب العالمي “ميامي” – تارة أخيرة، وهنا يجب أن أشكر وزارة الصحة على منع هذا التصرف- وهؤلاء إن لم يجدوا شيئا بدؤوا بجلد وسلخ زملاءهم الأطباء أو طلابهم أمام الملأ وعلى وسائل التواصل الاجتماعية، من خلال نشر قصص لأخطاء أو اخفاقات والتنمر عليهم وتحطيمهم وأنهم “مش نافعين”.
لقد كسروا بذلك كل المحرمات التي لا يقبلها مجتمع الطب الصارم الملتزم القائم على الاتزان والاحترام والمنهجية العلمية، ولعل التعلق بالمال والشهرة انضم إليها شراهةً زيادةُ عدد المتابعين وعدد المشاهدات، فتحولت رسالة هؤلاء إلى القفز على القضايا الطبية التي تجذب مشاهدات أكثر وافتعال إثارة لزيادة عدد المتابعين لينتهي بهم الأمر خبراء تطوير ذات و تخصص استشارات أسرية واجتماعية!
لكن ماذا عن تعب السنوات السبع وماصُرِف عليهم والتخصص والابتعاث للحصول على البورد من دول متقدمة والمؤتمرات العلمية ونتائجها والأبحاث والدراسات؟
أخشى أنها ذهبت مع الريح!!
لقد أصبح بعضهم يفتي بما يعلم ولا يعلم بل ويتباكى ويستفزع بمتابعيه لإنقاذه من حسد زملائه الأطباء الذين يشنون عليه حملة حظر شعواء لإغلاق حسابه غيرة من شهرته التي شقت عنان السماء، والبعض ينشر بفرحة عارمة فيديوهات له في سرير المرض ليُدعى له بالشفاء العاجل ليقفز عدد متابعيه لأرقام فلكية، وهؤلاء لهم في كل موضوع مشاركة وفي كل وسم تغريدة وفي كل برنامج صباحي ومسائي وبين العصر والمغرب مداخلة، وعندما تقرأ معرفهم تجدهم متقلدين مناصب إدارية وطبية ولهم هوايات لاتعد ولا تحصى، مما يثير تساؤل لدى المتأمل من أين لهم الوقت لكل هذا مقارنة بطبيبي الجميل؟ كيف لهم أن يؤدوا كل تلك الالتزامات التي وردت في هذا المقال والتي لم ترد فيه؟ هل عدد ساعات يومهم وتوقيتهم يختلف عن توقيت طبيبي الجميل؟ إن كان الأمر كذلك فليتهم يدلونه على الخلطة السرية ليرتاح بعد طول عناء، فهو يستحق الشهرة والثراء ومتابعين من كل أنحاء العالم؛ لأنه “طبيب برتبة إنسان”.
إن تأثر مجتمع الأطباء بالإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بهذا الشكل يعتبر تهديدا خطيرا للمهنة، وما يزيد الأمر خطورة الانتقال المريع في هذا التأثر من مستوى ساحات مواقع التواصل الاجتماعية ووسائل الإعلام إلى تكوين شلل ولوبيات -مستغربة من أناس يحملون كل تلك الدرجات العلمية- تثير حفيظة المتابع ليسأل “هل هم هؤلاء حقا أطباء، وهل هم حقا ناجحون أو مميزون، أم إنهم …؟” واقع حروبهم على وسائل التواصل والإعلام تقوم على أهدف لا تمت للتوعية -التي لم يوكلهم بها أحد- بصلة.
سطوة الأطباء برتبة “مؤثر” تذكرني بسطوة المشايخ برتبة “مؤثر” -ذوي المتابعين المليونيين في زمن مضى – والمشهد يتكرر، من افتعال حدث يتبعه توظيف علاقات لاستغلال عاطفة الجماهير التي يوجهونها كيفما شاؤوا وتوجيه الرأي العام لتحقيق منافع وأهداف شخصية، وكل هذا باسم توعية المجتمع أو توعية الأسرة بشكل عشوائي ضرره أكثر من نفعه، في أنشطة بعيدة عن تخصصاتهم الفعلية.
إن ما يحدث يجعل المتابع يعتقد لوهلة أنهم استعانوا بمستشاري تسويق الفنانين، الذين يعلنون خبر انفصال أو عقد قران أو موت الفنان الفلاني للتسويق له من خلال لفت نظر المنتجين لإسناد أدوار البطولة لهم!
نعم إنهم يفعلون أي شيء حتى لاتنساهم ذاكرة الجماهير والمنتجين.
إن هوس الشهرة لدى البعض في هذه المهنة أصبح يسول لهم بأن قيامهم بمهام عملهم يعتبر بطولة بحد ذاتها، والمشكلة بدأت من الإعلام الذي سوق لهؤلاء الأطباء وأعطاهم فرصة لتضخيم عملهم الوظيفي وتصويره بأنه عمل جبار مواز لجهود الدولة والقيادة الرشيدة، الإعلام الذي جعل لهم مساحة تُستعرض فيها جهودهم الخارقة كما يُستعرض دور وزارة الصحة التي -على الرغم من جهودها الجبارة وجهود كوادرها دون استثناء بل وما خصصته الدولة من المليارات- لم تعجب البعض وتمت مهاجمتها ونقدها بمقالات صفيقة.
وفي المقابل يتم تبجيل شخص للا شيء، فقط لأنه طبيب مؤثر!!
ألا يكفي أن التعليم لايزال يعاني بسبب سيطرة العلاقات والتحزبات في أوقات مضت، لتبتلى أنبل مهنة وهي الطب بمثل هذه الممارسات التي قد تفسدها وتجعل منها شبكة علاقات تقوم على السيطرة لمن يملك مفاتيح الإعلام وأكثر عدد من المتابعين، إذا كان هذا يحدث في العلن فكيف هو الأمر في ما يحدث داخل المؤسسات التي يعملون فيها والمناصب التي يتقلدونها؟
هل ستكون صحة المجتمع مستقبلا تحت رحمة أطباء برتبة “مؤثر”؟!
تخيل أن يمتنع طبيبٌ عن معالجة مريض أو يرفض مريضٌ طبيبا لأن أحدهم حظر الآخر في تطبيق من التطبيقات أو انتقده!
لقد كان للقيادة الرشيدة نظرة ثاقبة عندما صدر أمرا ملكيا لحماية مهنة القضاء من الوقوع في هذا المأزق بتقنين الظهور الاعلامي للقضاة وكيفية ظهورهم في وسائل التواصل الاجتماعي، وتتجه وزارة التعليم لتقنين استخدام المدارس ومنسوبي الوزارة لوسائل التواصل والظهور الإعلامي، وأتمنى أن تحذوا حذوهم وزارة الصحة مشكورة لحماية المجتمع الطبي من التحول إلى مجتمع “مؤثرين لايخدمون إلا أنفسهم” دون أطباء، فنبتلى بهدر موارد الدولة التي صرفت الكثير على أطبائها لتأدية رسالتهم التي ليس من بينها التوعية العشوائية ولا جمع متابعين ولا تحقيق شهرة، خاصة أن هناك تسهيلات وميزات كثيرة منحت للأطباء لتحسين دخلهم وتعزيز مكانتهم في المجتمع الطبي المحلي والعالمي لم تمنح لغيرهم ممن هو على رأس العمل من موظفي الدولة وفتح لهم القطاع الصحي الخاص الأبواب على مصراعيه في الدعاية والدخل الجيد، وفي الرقم (937) الخير والبركة للتوعية وتوجيه المرضى.
درهم وقاية اليوم في حماية مهنة الطب خير من قنطار علاج غدا لتطهير مجتمع المهنة!
في هذه الجائحة : تحياتنا لجيشنا الأبيض بطولاته ولكل من ضحى بروحه ونفسه فعاش مجهولا أومات دون أن يذكره أحد – وما أكثرهم- ويكفي هؤلاء أنهم عند ربهم من الصديقين والشهداء، اللهم آمين.