الرأي
مواسم الحياة في عنيزة
حجم الخط |
- A+
- A
- A-
ماذا يعني أن تولد في مكان ما فتحبه ويتعلق قلبك به فهو مسقط رأسك ومستودع ذكرياتك ثم تكتشف حباً آخر كان قد انزوى في مكان قصي من قلبك وعقلك يتكئ مبتسماً بانتظارك وكأنه يعلم أنك آت لا محالة بكل مافيك من حب وبكل مالك فيه من تاريخ لم تعشه على أرض الواقع ولكنك عشته عبر أصوات وصور مختلفة . في ليلتي هذه عشت مشطورة القلب بين الدمام وعنيزة .
زرت عنيزة لأول مرة زيارة خاطفة منذ ثلاثين عاماً ثم توالت الزيارات بعضها بدعوات رسمية وبعضها بدعوات قلبية حين استجاب قلبي لتلك الابتسامة التي انزوت في مكان قصي وتعلقت بها وأحببتها بقوة الجذور الراسخة وأبهرني جمالها عن قرب كما فعل تاريخها عن بعد على صفحات الكتب التي قرأت وسير الرجال والنساء وحكايات مطرزة بالنور على غيمات بيضاء قرأتها على جبين والدي رحمة الله عليه .
إن الفرق بين مسقط الرأس والجذور التي تنتمي إليها هو الفرق الذي يجعل المدن لا تتشابه إلا في قلبك ، هو الفرق بين مدينة ساحلية صناعية تستقطب الحياة الناس فيها على عجل ، وأخرى تستقطب الحياة الناس فيها بتؤدة تشبه انتظار فسيلة تنمو وجذع غضا يسترجع عافيته . هناك حياة وهنا حياة ولكن الخطا لبلوغها مختلفة .
إنها سيرة طويلة ومشاعر متضاربة يوحدها الوطن الكبير والحب الكبير وتبقى التفاصيل أرض خصبة يزرع فيها الزراع مايشاؤون .
في عنيزة كنت أرقب ذلك السور الجمالي القصير الذي يخفي عنك المناظر المزعجة في بعض الشوارع الرئيسة ويؤطر برفق تلك المزارع الجميله في وسط المدينة رأيته فقلت لنفسي كم مرة كتبت مقالات أطالب فيها أمانة الدمام بسور مشابه يمنع عن نواظرنا مالانريد من مساوئ الشوارع والأراضي الفضاء ؟ وفي عنيزة أبحث عن ورقة ملقاة على الأرصفة أو قوارير مياة فارغة حولها فلا أجد وأتذكر فوراً شوارع في الدمام يحفها من الجانبين ما لايسر مما يشوه المكان . في حراج التمور في عنيزة كانت أعداد العمالة الأجنبية لا تكاد تذكر مقارنة بالشباب السعودي من مختلف الأعمار ذاك يتعلم مبادئ التجارة وآخر يخدمك في تصريف بضاعتك أو تصديرها إلى حيث تريد . فتذكرت سوق السمك في الدمام وكيف تسيطر عليه العمالة الأجنبية بنسبة ٩٩،٩% .
نعم هناك فرق لا ينكر .
وتذكرت كيف تراجعت تجارة التمور في الأحساء – وهي الأحساء التي سلة الغذاء الأولى في البلاد- مقارنة بالنشاط المتزايد لمثيلتها في عنيزة وبريدة والقصيم بشكل عام
وأدركت أن محاربة ثقافة العيب الاجتماعي هي السلاح الأول لتنهض الحركة الاقتصادية وتتبدل الصورة النمطية للمجتمعات . وأن العمل الجماعي يتطلب جهداً منظماً ومضاعفاً كما رأيته هنا في عنيزة حين زرت المدينة الغذائية الصحية في عنيزه حيث يقام حراج التمور يومياً في موسم غني ليس بالتمر وحده ولا بمردوده المادي بل بثروته الوطنية الأولى وهي الإنسان. هناك كان كبار المسؤولين في الغرفة التجارية وهي الجهة المنظمة للموسم يتواجدون في ساعات الصباح الأولى للمتابعة والإشراف تماماً كما يتواجد الطفل ذو الأعوام العشرة ليعمل ويساند ويتلقى أبجديات التجارة . هنا في موسم عنيزة للتمور تصنع الحياة كل يوم من بعد صلاة الفجر ليضخ طاقة وحماس وأموال وأفكار تصنع الحاضر والمستقبل .